في عالم يتسم بعدم اليقين، كثيرا ما ينتهي المآل بإيرادات الموازنة ونفقاتها بعيدا عن خطط الحكومة. فتقلب النمو وارتفاع إعانات الدعم الشاملة والمؤسسات المملوكة للدولة التي تسجل خسائر كلها عوامل تُعَرِّضُ الكثير من الاقتصادات منخفضة ومتوسطة الدخل في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وباكستان لهذه المخاطر على المالية العامة. وتقترن هذه العوامل بالتطورات الخارجية المعاكسة كالزيادات الأخيرة في أسعار الفائدة والارتفاعات الكبيرة في أسعار الغذاء والوقود لتفرض ضغوطا على الموارد العامة في كثير من البلدان.
وكما نوضح في دراسة جديدة أجريناها، فإن المنطقة المعرضة للمخاطر على المالية العامة بشكل خاص هي تلك التي تضم الاقتصادات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وباكستان ما عدا بلدان الخليج مرتفعة الدخل. وفي الواقع، فإن المخاطر الصغيرة على المالية العامة تحدث في البلدان كل عام. والأهم من ذلك أن الصدمات الأكبر التي تؤدي إلى ارتفاع الدين بمتوسط نسبته 12% من إجمالي الناتج المحلي تحدث مرة كل ثماني سنوات في المتوسط.
ورغم تواتر هذه الأحداث، فهي غالبا ما تباغت صناع السياسات على حين غرة، ويضطرون بسبب هذه الصدمات إلى إجراء تخفيضات مخصصة الغرض في الإنفاق على التنمية وأولويات أخرى. ويحد هذا الأمر أيضا من قدرة بلدان كثيرة على استخدام سياسة المالية العامة في تمهيد أثر تباطؤ النشاط الاقتصادي، وذلك تحديدا عندما تكون هناك حاجة ماسة إليها.
مصادر المخاطر
ثمة عوامل متعددة وراء تعرض المنطقة لمخاطر مرتفعة نسبيا على المالية العامة. أولا، النمو الاقتصادي متقلب أكثر منه في المناطق الأخرى من العالم. والاعتماد الزائد على إيرادات الموارد بين البلدان المصدرة للهيدروكربونات مثل الجزائر والعراق وليبيا، وانتشار الدعم الشامل على الغذاء والطاقة في المنطقة عرضا الموازنات كذلك للتقلبات في أسعار السلع الأولية.
وثانيا، ملكية الدولة لشركات غير مالية وبنوك في هذه البلدان قد تنتج عنها التزامات ضخمة على الحكومة، تُعرف بالالتزامات الاحتمالية، والتي يمكن أن يحل أجل استحقاقها في حالة وقوع أحداث سلبية. وعلى سبيل المثال، قد تواجه شركة عامة لمرافق الكهرباء أو المياه خسائر تشغيل كبيرة مما يقتضي حصولها على مساعدة مالية من الحكومة لتتمكن من الاستمرار في تقديم خدماتها.
ويعاني كثير من المؤسسات المملوكة للدولة في المنطقة من الضعف المالي، وهو ما يقتضي ضخ نقدي منتظم من الحكومة. ويعود ذلك على الأغلب إلى دورها في القيام بأنشطة شبه مالية مثل بيع السلع والخدمات بسعر أقل من أسعار السوق أو توفير وظائف بدلا من إدارتها على أساس تجاري سليم. وقد تنشأ أيضا الالتزامات الاحتمالية عن علاقات الشراكة بين القطاعين العام والخاص. فعلى سبيل المثال، بعض عقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص قد تتطلب من الحكومة تعويض الشريك من القطاع الخاص إذا كانت الحصيلة أقل من المتوقع، كما في مشروعات إنشاء الطرق برسوم مرور.
وثالثا، الموارد العامة للمنطقة معرضة للأحداث المتطرفة النادرة والتي يمكن أن تكون عواقبها وخيمة على المالية العامة. فعلى سبيل المثال، الكوارث الطبيعية والمناخية مثل الفيضانات المدمرة التي اجتاحت باكستان في عام 2022 أو موجات الجفاف الشديد في شمال إفريقيا أو الصراعات الاجتماعية وعدم الاستقرار يمكنها أن تعرقل الأنشطة الاقتصادية وتدمر البنية التحتية، كما أنها تؤدي إلى نشوء احتياجات إضافية للإنفاق وتضعف القدرات المؤسسية وتتسبب في نزوح السكان. فالأضرار الناتجة عن الكوارث الطبيعية وحدها تبلغ ما يقرب من ملياري دولار سنويا.
السياسات
على هذه الخلفية، تعمل الحكومات في مختلف أنحاء المنطقة على تقوية قدراتها في مجال تحليل المخاطر على المالية العامة وإدارتها. فقد أنشأت بعض الحكومات، على سبيل المثال، وحدات متخصصة للمالية الكلية وأعدت كشوفا بالمخاطر على المالية العامة (مصر) أو حققت تقدما في استكشاف المخاطر على المالية العامة (الأردن)، أو في مراقبة المؤسسات المملوكة للدولة (تونس) وتنفيذ تدابير لتخفيف آثار المخاطر (العراق).
غير أنه لايزال يتعين على الحكومات أن تتخذ خطوات من أجل تعزيز عملية جمع بيانات عن المخاطر على المالية العامة وتحسين القدرة على تحديدها وتحليلها وإدارتها.
فأولا، هناك حاجة ملحة بوجه خاص إلى معالجة فجوات البيانات من خلال الجمع المنتظم للمعلومات المالية عن المؤسسات المملوكة للدولة وكذلك عن الضمانات والشراكات بين القطاعين العام والخاص والمصادر الأخرى للالتزامات الاحتمالية ليتسنى في ضوئها إعداد تقييم للمخاطر على المالية العامة يتسم بالشفافية. وما أن يتم جمع البيانات الكافية، يمكن تطبيق أساليب إعداد النماذج مثل اختبارات قياس القدرة على تحمل الضغوط على المالية العامة من أجل الوصول لفهم أعمق للمخاطر على المالية العامة واحتمالية حدوثها وتأثيرها الممكن.
وثانيا، ينبغي للحكومات أن تنظر في اتخاذ تدابير لتخفيف آثار المخاطر، وتنطوي على الجمع بين الضوابط المباشرة، مثل وضع حدود عليا مُعايرة بشكل سليم لإصدار الضمانات الحكومية، والتدابير غير المباشرة من أجل تثبيط الأنشطة الخطرة، مثل فرض رسوم على المنتفعين من الضمانات.
وثالثا، يمكن أن تواصل الحكومات تعزيز صلابتها في مواجهة الصدمات من خلال بناء احتياطيات مالية وقائية لتغطية النفقات غير المتوقعة، ووضع أطر للمالية العامة متوسطة الأجل باستخدام ركائز مُعَرَّفة بوضوح للدين والعجز. ويتيح صندوق النقد الدولي مجموعة من الأدوات والمشروعات لتنمية القدرات لمساندة السلطات الوطنية في تقوية قدرتها على تحليل المخاطر على المالية العامة وإدارتها.
ويمكن للإصلاحات الاقتصادية أن تساعد في معالجة المخاطر على المالية العامة من منبعها. فعلى سبيل المثال، يمكن للأطر الاقتصادية الكلية الأكثر صلابة أن تقلل من تقلبات النمو. وكذلك يمكن لإصلاحات الحوكمة وعمليات بيع الأصول أن تكبح الالتزامات الاحتمالية أو تقلل فرص تحققها. وبالإضافة إلى ذلك، فإن تحسين عمليات إعداد الموازنة يقلل من احتمالية حدوث المفاجآت غير المتوقعة.
ونظرا لتنوع أوجه عدم اليقين، لا يمكن تفادي المخاطر على المالية العامة في بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بشكل كامل. غير أن تحسين الوعي بها وتقوية إدارة المخاطر على المالية العامة سيقللان من المفاجآت التي يمكن أن تواجه الموازنة ويضعان أساسا صلبا لسياسات التنمية على المدى الطويل.